(هذه المحاضرات العرفانية ألقاها الشيخ راضي حبيب على بعض الطلبة)
طبيعة العلاقة بين العرفان النظري والعملي :
يوجد علاقة ازدواج بين العرفان النظري
والعملي ، وهذه العلاقة تتحقق عندما يكون هناك تحقق عملي في عملية السير والسلوك
على خطى السير العقلي ، وهذه العلقة ينتج
عنها الارتباط ما بين المعرفة والسير والسلوك العملي .
اذن فعلى مستوى هذه العلاقة فيما بين
العرفان النظري والعملي ، نقول أن العرفان النظري يشكل ويصور لنا نتاج العرفان
العملي ، ومن خلال هذا النتاج يسهم في بناء معطيات السير والسلوك العملي بناءا
ًمتميزاً بمنهجية منتظمة لايعتريها الخلل والزلل في مقام سير وسلوك النفس العملي .
فنقول : أن هذا النوع من العلاقة يعتبر علاقة
تكامل بين العرفان النظري والعملي .
فهنا سؤال يطرح نفسه : لو أن انسانا
ما لم يكن مقتنعا بهذا الأمر ، ولم يلتزم في عملية سيره وسلوكه النفسي بمعطيات
العرفان النظري ، هل بامكانه أن يتجاوز طريق السير والسلوك بنجاح ؟
من خلال طرح هذا السؤال نستطيع ان
نعمق فائدة هذه المباحث النظرية أكثر فأكثر بالنسبة للعرفان النظري ، بما أننا سوف
نصل الى معرفة الآثار العظيمة التي تترتب عليها هذه الاجابة في اختيار هذا المسلك
الذي يسهم في تكوين قناعة كبرى تحفز بدورها
على دفع السالك إلى السير والسلوك
بكل اطمئنان واستقرار.
وفي الجواب عن السؤال أقول : لا يمكن
التحقق بالسير عملياً مادام لم يحدد معالمه نظرياً.
النظرية روح العمل :
إن
كل عملٍ لا يَبتني على نظرية فهو كالجسم الذي لا روح فيه، فكما أن الجسم من غير
الرّوح ليس له أي أثر إيجابي أو سلبي ولا فائدة فيه، كذلك العمل من غير نظرية فهو
ليس إلاّ حركات عشوائية غير مترابطة وغير منصبّة في غايةٍ واحدة وهدفٍ واحد .
وبما أننا ننظر إلى أن طبيعة العلاقة
بين العرفان النظري والعملي تكاملية ومن خلالها نحرز سيراً وسلوكاً صحيحاً لا
يشوبة الخلل والزلل ، فالعرفان النظري يساعد على تكوين رؤية معرفية منظومية
للعرفان العملي .
فالعلاقة بينهما علاقة برهانية يتم من
خلالها الارتباط اليقيني ،اذن العرفان النظري وسلية السير والسلوك النفسي في مرحلة
العرفان العملي .
فحاصل الكلام أن من يسلك طريقه بغير
معرفة قبلية فسوف يُفسد أكثر مما يُصلح وسوف يتعرقل سيره ، وقد أشار النبي إلى خطورة هذا المسلك بقوله : ( مَن
عمل على غير علمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح )[1] .
قال العارف العلامة السيد محمد حسين الطهراني :
ومن هنا يتّضح أنَّ الاقتصار على
العلوم الإلهيّة والذهنيّة والفكريّة، كتعلّم الفلسفة وتعليمها من أجل
تكامل النفس وطيّ مدارج ومعارج الكمال الإنسانيّ لن يكون كافياً بأيّ وجه
من الوجوه ، فترتيب القياس والبرهان على أساس المنطق الصحيح والمقدّمات
السليمة يُعطي الذهن نتيجة مقنعة، ولكنّه لا يُشبع الروح والقلب ، ولا
يُروي النفس من عطش الوصول إلي الحقائق وشهود دقائق السير.
فالفلسفة والحكمة وإن كانت تتمتّع بالاصالة والمتانة، وتقوم على إثبات أشرف العلوم الذهنيّة والفكريّة ـ ألاَ وهوالتوحيد ـ على أساس البرهان ، وتسدّ الطريق أمام الشكوك والشبهات ، وعلى هذا الاساس كذلك أمر القرآن الكريم والراسخون في العلمبالتعقّل والتفكّر وترتيب القياس والبرهان والمقدّمات الاستدلاليّة، ولكنّ الاكتفاء بالتوحيد الفلسفيّ والبرهان في مدرسة الاستدلال ، دون انقياد القلب ووجدان الضمير وشهود الباطن هو أمر ناقص .
فتجويع القلب والباطن من الأغذية الروحيّة
والمعنويّة لعالم الغيب والأنوار الملكوتيّة الجماليّة والجلاليّة،
والاكتفاء بالسير في بواطن الكتب والمكتبات والدرس والتدريس، وحتّي إذا بلغ
أعلى درجاته، ليس إلاّ إشباع لعضوٍ من الاعضاء وتجويع لعضوٍ أعلى وأرفع .
فالدين القويم والصراط المستقيم يُراعي كلا
الجانبين، ويُكمل القوى والقابليّات الكامنة في الإنسان في الحالين .
فهو ـ من جانب ـ يحثّ ويُرَغِّبُ بالتعقّل والتفكّر، ومن جانب آخر يأمر بالإخلاص وتطهير القلب من صدأ الرواسب الشهوانيّة، وتهدئة القلب وطمأنة وتسكين الخاطر. فبعد أحد عشر قَسَماً عظيماً وجليلاً يقول تعالي : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّيهَا وقَدْ خَابَ مَن دَسَّـيهَا (.
انظر إلي هذه الآيات القرآنيّة الكريمة التي تخاطب روح الإنسان، وتتكلّم مع باطنه، كيف تدعو المفكّرين والمدرّسين وأساتذة الفلسفة والاستدلال إلي التعبّد والمراقبة ومحاسبة النفس للإخلاص في العمل من أجل رضا الله، كما جاء على لسان رسول الله : ( مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ إلَي لِسَانِهِ ) ، فينابيع المعارف الإلهيّة من قلوبهم متفجّرة ، وعلى ألسنتهم سارية، وقد انبعث السيل الجارف من الافكار والإلهامات والواردات الرحمانيّة من عمق وجودهم.[2]
أقول: فمعنى كلام العلامة الطهراني رضوان الله تعالى عليه أنه يجب أن لا يقتصر السالك على العرفان النظري وهو الإثباتات الفكرية والبراهين الحكمية والعقلية للتوحيد .بل يجب أن يزواج بين ذلك وبين العرفان العملي وهو تطبيق المعارف المحصّلة من العرفان النظري وجعلها متحقّقة ومتجليّة في السلوك العملي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق