(محاضرات عرفانية ألقاها الشيخ راضي حبيب على بعض الطلبة)
التوجيه الايجابي للشطح :
حاول بعض العرفاء توجيه الشطح بصورة ايجابية لا تخل بمقام الأحكام الشرعية الظاهرية ، فالتجأ إلى تأويل كلمات الشطح تأويلاً ينسجم مع الشرع ، كما فعل ذلك السراج الطوسي في كتابه اللُمَع .
وحاول آخرون تقديم المعذورية التي تدفع عن الشاطح العقاب والعتاب ، بقولهم أن الشاطح عندما أطلق كلمات الشطح فهو مغيب بذات الله ، عن نفسه وعن الخلق ، فلا يمكنه التمييز العقلي بعد ذلك ، فيحتجون بقاعدة إذا أخذ الله ما وهب (العقل) سقط ما وجب (التكليف الظاهري)، ففي حالة غياب العقل يدرء الحد ، لقاعدة درء الحدود في الشبهات ، ويجدر بي أن أذكر ما أفاده الاستاذ العلامة الحيدري في محاضراته في هذا الخصوص .
قال السيد كمال الحيدري: السؤال الذي يطرح نفسه هو : أيكون السالك في حالة صدور مثل هذه الشطحات منه معذوراً أم غير معذور ؟
هنا يوجد بحثان: الأول : بحث فقهي وهو خارج عن محل الكلام ، ولكن مع ذلك يمكن القول أن القائل بتلك الألفاظ وغيرها ـ من الشطحات ـ إنما قالها وهو غير ملتفت ، فيكون حاله حال القائل بها وهو نائم ، فهو معذور ولا يترتب عليه أي حكم شرعاً ، لأنه غير ملتفت لأصل وجوده فضلاً عما يقوله .[1]أهـ
وعموماً يستحسن بنا في هذا المقام أن نستعرض جانباً مُهماً حول كتمان الاسرار الالهية والتحفظ عليها من الذين يجهلونها .
كتمان الاسرار الالهية وحرمة افشائها:
لكن هناك نقطة مهمة لابد من التطرق إليها بما أن هذا المقام من السر المستتر ، علينا أن نبين ما يقتضيه من الاحكام والآداب الخاصة به .
هناك اسرار مودعة من قبل الله تعالى عند كثير من الأولياء وخصوصاً الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين حيث أمرهم بحفظها ولا يظهروها إلا لمن هو أهل لها ، ولنعم ما قيل في الشعر المنسوب الى مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال:
لا تَفْشِ سِرَّا ما استطعت الى امرىءٍ * يُفشِي اليك سَر سَرَائر يُستودَعُ
فكمـا تـراه بِسِرّ غيـرك صانعـاً * فكذا بِسِرّكَ لا محالـة يصنـع
وإلى ذلك أشار الفرزدق:
لا يكْتُم السّرَّ إلا من له شَرفُ * والسِّرُّ عند كرام الناس مكتُومُ
السِّرُّ عندي في بيت له غلقٌ * ضلت مفاتيحه والباب مَردُومُ
إذن: الأسرار المودعة من قبل الله تعالى عند الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين هي أمانات وورد في هذا الشأن قوله ع : « السر أمانة فانظر عند من تضع أمانتك ».وقال الله تعالى : ( ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )(1).
وأسرار الله تعالى كلها أماناته في أرضه وقلوب أوليائه ولا إجازة لهتكها وكشف قناعها إلا بين يدي صاحبها الذي هو أهلٌ لها وهذا أمرٌ أمر الله تعالى به عباده المخلصين من الأنبياء والأولياء ـ عليهم السلام ـ وبالغ معهم ، وأمرهم ايضاً ان يأمروا بذلك المؤمنين ويبالغوا فيه ، حتى قالوا « افشاء سر الربوبية كفر وهتك استار الألوهية زندقة » وقالوا « لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها ، فتظلموها ، ولا تمنعوها من أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الشفيق يضع الدواء موضع الداء ».
وكما ورد في حق سلمان : « سلمان منّا أهل البيت » أي من أهل بيت التوحيد والعلم والمعرفة والحكمة ، وقال تأكيداً لهذا المعنى « لو علم أبو ذر ما في بطن سلمان من الحكمة لكفره ! » وروي « لقتله! » وكلاهما صحيح فأنظر إلى عظمة السر المودع عند سلمان ، وعلى المبالغة في كتمان أسرار الله.
وإلى غلبة هذه الأسرار بالنسبة إليه ص في بعض الأوقات قال : « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل » والمراد أنّ لي مع الله حالات وأوقات لا يمكن ان يطلع عليها أحد ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غيرهم من المخلوقات ، وكأنه يشير الى أنه ما تنكشف عليه هذه الاسرار ولا تتجلى له هذه الأنوار إلاّ عند تجرده عن جميع التعلقات الروحانية والجسمانية ـ حتى النبوة والرسالة ـ وعن جبرئيل وابلاغه أيضاً لقوله عليه السلام : « لو دنوت أنملة لا حترقت »،
وبالحقيقة المعراج عبارة عن هذا المقام ، إن اُريد به المعراج المعنوي ، وإن اُريد به المعراج الصوري فهو ظاهر وقد عبر عليه السلام عن شدة تعلقه بالنبوة والرسالة ومنعهما من الوصول إلى حضرة الحق جل جلاله وقال حين خلاصه عنهم لحظة « لا يسعني فيه ملك مقرب أي جبرئيل وابلاغه « ولا نبي مرسل » أي النبوة لأن الرسالة ابلاغ ما حصل عن النبوة ، وأمثال ذلك كثيرة. والغرض منه أنّ إخفاء أسرار الله تعالى ـ خصوصاً الأسرار المتعلقة بهم ـ واجب عن غير أهلها لأنها لا زالت كذلك أي مخفية عن غير أهلها ، مودعة عند أهلها ،
وإذا عرفت هذا فلنرجع إلى قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأقواله في هذا الباب كثيرة نذكر منها أحسنها وألطفها ، وهو ما جرى بينه وبين كميل بن زياد النخعي رحمه الله الذي كان من أخص تلامذته وأعظم أصحابه وإليه تنسب خرقة الموحدين وطريقة المحققين حين سأله عن « الحقيقة » بقوله « ما الحقيقة ! » فقال له عليه السلام : « مالك والحقيقة ؟ » يعني من أنت
والسؤال عن الحقيقة ولست بأهلها ! فقال كميل : « أولست بصاحب سرك ؟ » قال : « بلى ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي » يعني أنت صاحب سري ومن أخص تلامذتي ولكن لست بأهل لمثل هذا السر والإطلاع عليه لأنه « يرشح عليك ما يطفح مني » و « إلاّ كان الأمر » يضرك ويضرني لأن ظرفك لا يحتمل فوق قدرك ، وأنا مأمور بوضع الشيء في موضعه ،
فقال كميل : « أومثلك يخيب سائلاً ؟ » أي مثلك في العلوم والحقائق والإطلاع على استعداد كل سائل « يخيب سائلاً » أي يمنعه عن حقه ويجعله محروماً عن مراده ، خائباً عن مقصوده ، ساكتاً عن جوابه ؟ والله تعالى يقول : ( أما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدّث ) وأسوة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم لقوله « كلموا الناس على قدر عقولهم » فشرع الإمام عليه السلام بعد ذلك في بيانه وقال : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة ، فقال كميل : زدني فيه بياناً ، قال الإمام عليه السلام : صحو المعلوم مع محو الموهوم .
قال كميل : زدني فيه بياناً ، قال الإمام عليه السلام : هتك الستر لغلبة السر. قال كميل : زدني فيه بياناً. قال الإمام عليه السلام : نور يشرق من صبح الأزل ، فيلوح على هياكل التوحيد آثاره . قال كميل : زدني فيه بياناً ، قال الإمام عليه السلام : أطف السراج ، فقد طلع الصبح.
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح طويل وبسط عظيم ، ولكن معنى الكلام الأخير انه يقول : اسكت بعد ذلك أي بعد هذا البيان التام والإظهار الكامل والكشف الجلي ، عن السؤال من لسان العقل ومقام القلب ومرتبة السلوك ، لأنه قد طلع تباشير شمس الحقيقة وظهر شعاعها في الآفاق ، ولست أنت بعد ذلك ، محتاجاً إلى السؤال من لسان العقل الذي هو كالسراج بالنسبة للشمس.
والمراد أن السالك إذا وصل إلى مقام المشاهدة والكشف فلا ينبغي له أن يطلب المقصود من طريق المجادلة والمباحثة لأنّ الكشفيات والذوقيات غير قابلة للعبارة والاشارة والسؤال والجواب كما أشار إليه أولا : « كشف سبحات الجلال من غير اشارة » فكأنه أمره بالسكوت والصمت والتوجه إلى حضرته تعالى حتى يدرك مقصوده بالذوق الذي هو أعلى مراتب الوصول إلى الله تعالى ،
وعن هذا المقام قال العارف : « من عرف الله كلَّ لسانه » أي « من عرف الله » على سبيل المشاهدة والذوق « كلَّ لسانه » عن العبارة والاشارة والغرض من هذا كله ان الإمام عليه السلام اذا كان بإفشاء الأسرار الالهية من أعظم خواصه وأكبر تلامذته بهذه المثابة ، فلا يجوز لغيره افشاؤها مع كل أحد من العوام والجهال ، فاذن مأمور حاملها بكتمانها واخفائها عن غير أهلها اتباعاً لله تعالى ولرسوله ولإمام المسلمين كافة.
-----------------------------------------------------------
[1] - العلامة كمال الحيدري كتاب من الخلق إلى الحق ص 97 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق