(محاضرات عرفانية ألقاها الشيخ راضي حبيب على بعض الطلبة)
ظاهرة الرمز الشعري في اللغة العرفانية :
في هذا المقام علينا أن نبحث فيه من جانبين هما الرمز والشعر ، فعلينا أولاً تحديد ما هو مفهوم الرمز وبعد ذلك ننتقل إلى تحديد مفهوم الشعر .
في
بادئ ذي بدء أقول : أن ظاهرة الخطاب الرمزي لها بعد تاريخي مديد ، ففي بدايات
الانسان على سطح الارض من قبل التأريخ الميلادي ، حاول أن يتناقل المعاني بين
أبناء جنسه عبر اللغة الهيروغليفية وهي لغة رمزية بحتة ، وعلاوة على هذا نلاحظ أن
الله سبحانه استخدم أيضاً اللغة الرمزية في القرآن في خطابه مع نبيه الحبيب محمد،
من خلال الحروف المقطعة في أوائل بعض السور ، وذلك لحفظ الاسرار المكنونة عن
تسرّبها بيد من لا يحفظها .
فالرمز
يعتبر لغة خاصة بإطارها ، فاللغة الرمزية بمثابة رابط معنوي ينكشف في حدود إطاره .
أما بالنسبة لظاهرة الرمز الشعري ، فقد أصبحت بارزة جدا في التعبيرات عن الذوق العرفاني ، عرّف بعض الحكماء الشعر بأنه إبراز العواطف النبيلة بطريق الخيال.
وقال
آخرون: الشعر هو الحق ينقله الشعور حياً إلى القلب .
فالتعريف
الأول يصح أن يكون للفن الأدبي بضربيه الشعر والنثر. والتعريف الثاني يخاطب العقل
والشعور معاً .
فالوزن
والقافية والاتصال بالشعور من الشروط اللازمة في قول الشعر، والعارف يكون الشعر
صادراً عن عقله وشعوره معاً ، ونابعاً من تجاربه ومعاناته في الحياة ، وكل شعور
جاء من الاستعدادات السلوكية والخلوات والرياضات والمناجاة والأخلاق والدعوة إلى
الوجود المطلق .
إن غاية الشعر عند العارف لا
تنحصر في رسم الواقع والتعبير عن المحسوس المألوف ، فهذا مجال ضيق لذا
يتجاوزه الشعر العرفاني إلى اللامحدود ،
وهنا يأخذ النص الشعري بعداً آخر أيضا على مستوى المعمار النصي مما يتيح للمتخيل
الشعري ابتكار أشكال جديدة في التعبير تتجاوز الكلمات ( اللغة المألوفة ) والصور
المحسوسة إلى اللامحسوس ، وهذا هو التجلي الذي يكشف الجمالية العرفانية التي تنحو
منحى يعبر عن الأشياء بشكل آخر يتماها مع باطنها ليكشف عن أعماقها ، ولا تتم هذه
المحاولة إلا بانفعال غامر يرج الجسد حتى نشوة الانخطاف التي ترجه ، وانخطاف
بالمعنى اللامتناهي . المعنى نفسه لا يقال، ذلك أنه ليس ثابتا، إنما هو حركة دائمة
في الارتقاء إلى أعلى عليين ، كطائر العنقاء .
اللجوء إلى الرمز الشعري :
وقف أهل العرفان من قضية التعبير عن مواجدهم
ومقاماتهم ومشاهداتهم ثلاثة مواقف :
- موقف البوح الصريح:كما فعل الحلاج فقد انتهج هذا الاسلوب في التصريح عن الحقيقة ، حتى نالوا منه وقُتل بعد ذلك .
- موقف الكتمان والتقية :والى هذا الأمر أشار سيدنا الامام السجاد زين العابدين بقوله :اني لأكتم من علمي جواهره ** كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتناوقد تـقدم في هذا أبو حسن ** إلى الحسين وأوصى قبله الحسنافرب جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لي أنت ممن يعبـد الوثناولاستحل رجال مسلمون دمي ** يرون أقبح مـا يأتونه حسـنا
- موقف البوح الرمزي:الذي يعبر القوم به عما يريدون، ويفهم عنهم المراد من كان على مشربهم ، ويدرؤون عنهم العامة الذين يقنعون بظاهر من القول، فيجدون في مملكة الرمز ملاذا يعصمهم من أن يصرفوا جواهرهم عند من لا يستحقها ، ويبلغون في الوقت ذاته ما يريدونه إلى أهل طريقتهم، ولا يحرمونهم من لذائذ المشاهدة ، كما قيل في الحديث عن الامام الكاظم: « لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم » .فأصحاب الرمز وإن كانوا يبوحون بما عندهم، إلا أنهم يستخدمون لغة خاصة من الرمز لا يفهمها عنهم إلا من على مشربهم ، والمدانون لهم في المنزلة .ولقد ساعدهم على ذلك أن التعبير الرمزي ليس طارئا ، بل هو قديم، حتى إن هناك من يجعل التعبير الرمزي هو الفيصل بين التعبير الأدبي وغيره من ألوان التعبير، أليس العدول عن الحقيقة في التعبير، والجنوح إلى المجاز وصوره التشبيهية والكنائية والاستعارية رمزا؟ألم يتخذ الشاعر العربي القديم الحديث عن النخلة والقمر والشمس والظبية والمهاة سبيلا على التغزل الرمزي، هروبا من التصريح باسم المرأة، إما لظروف اجتماعية كانت تقضي بالحيلولة بين المرأة ومن تغزل بها، وإما لأسباب فنية خالصة؟ فما الذي صنعه العرفاء إذن غير التوسع في هذا الباب؟
فالرمز من أهم القضايا التعبيرية في اللغة العرفانية، إذ يتأسّسُ هذا التعبيرعلى الرمز بسبب حرج وخوف العرفاء من نشرِ أفكارهم فَتُسْتَباَحُ دماءهم. وقد يكون الرمز العرفاني رمزاً للشيء ولنقيضه معاً، فالموت مثلاً رمزٌ للحياة لأنّ المفهوم العرفاني للموت هو أنّه حياة أخرى، ولذلك يجد العرفاء في الحزن فرحاً ، وفي الشقاء سعادة ً، وفي التعب راحة .
ومن أهم الرموز العرفانية (المرأة)، و(الطير)، و(العنقاء ) و(الماء)، و(النور)، و(الخمرة)، و(المعراج)…الخ. فالمرأة لدى العرفاء هي أجمل تجليّات الوجود، وهي رمز النفس الكليّة ، ورمزٌ للرحم الكونية، وبوساطة رمز المرأة مزج العرفانيون بين المادي والروحي.
وأمّا الطير فهو رمزُ بحثِ السالك عن المعرفة، ورمز الخلاص من غربته الطينية.
وأمّا الماء بأسمائه المتعددة (محيط) و(بحر) و(نهر)، فهو رمزٌ لاتساع المعرفة والعلم الإلهيين.
ويعدّ النور رمز المعرفة والخلاص والحقيقة المحمدية بينما ترمز الخمرة إلى معرفة الذات الإلهية التي ُتسْكَرُ العارف من شدة عشقها .
أمّا رمز المعراج فقد استلهمه العرفانيون من (إسراء النبي) فجرّدوه من طابع التأريخ، وقدّموه تقديماً بطابع جلالي ليقوم بوظائف دينية ومعرفية وفنية جمالية. فالمعراج العرفاني معراج معنوي نفسي وروحي وعقلي، يدعو السالك من خلاله إلى الله سبحانه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق