(محاضرات عرفانية ألقاها الشيخ راضي حبيب على بعض الطلبة)
الرأي المخالف القائل بعدم ضرورة اتخاذ المرشد :
لابأس بأن
نذكر في هذه الوقفه الخلاف الذي وقع من قِبل القلة القليلة من متأخري المتأخرين
والذين ليس لهم باع طويل في مجال السير والسلوك العرفاني ، وخالفوا ما أقرّته واستقرت عليه المدرسة العرفانية في مسألة ضرورة اتخاذ المرشد في عملية السير
والسلوك إلى الله تعالى ، وحتى نجعل لهذا الخلاف حدا ً نورد ما ذكروه من الأدلة
التي استندوا عليها في عدم ضرورة المرشد في السير إلى الله .
نقلاً
عن ما ذكره صاحب كتاب الروح المجرد قال ():
كان هناك شخص من مريدي المرحوم الأنصاريّ قدّس
الله سرّه والمتردّدين على محضره، وكان قبل ذلك يتردّد على المرحوم
القاضي() ، لكنّه كان أساساً تلميذاً وملازماً
للمرحوم السيّد عبدالغفّار المازندرانيّ في النجف ، ولا يزال بحمد الله على
قيد الحياة حتّي الآن.
وقد قام هذا الشخص بمخالفة اقتراح الحقير وبدأ معارضته فكان يتحدّث في مجالس ومحافل أُنس الأصدقاء ببيان جذّاب ملفت للأنظار، يمكنه بسهولة أن يستلفت إليه أفكار السالكين وخاصّة غير المتعلّمين والدارسين منهم ،طارحاً بإلحاح مسألة عدم الحاجة إلي أُستاذ؛ وكان كلامه وحديثه يتضمّن عدّة مطالب:
الدليل الاوّل:
أنّ الأستاذ الحقيقيّ هو إمام العصر والزمان عجّل الله فرجه الشريف، وهو حاضر وناظر وحيّ ومحيط بعالمنا، فهو مطَّلِع على أُمور كلّ سالك وحالاته، فهو يوصله على أكمل نحو وأتمّه إلي نتائج السلوك. ونحن الشيعة مكلّفون أن نذكره في الأدعية والزيارات، فنسلّم عليه ونعرض حاجاتنا عليه لهذا السبب . أوَ ليس من الخطأ ـمع الاعتقاد بالإمام الحيّ والدعاء بتعجيل فرجه أن تُطلب الحاجات من غيره ويُستمدّ العون من أُستاذ سواه أوَ ليس من المخجل ـمع وجود الإمام الحقيقيّ الممتلك للولاية الكلّيّة الإلهية أن يمدّ الانسان يد الاستعانة إلي الأستاذ الذي هو مثله يخطأ ويسهو ؟!
وقد قام هذا الشخص بمخالفة اقتراح الحقير وبدأ معارضته فكان يتحدّث في مجالس ومحافل أُنس الأصدقاء ببيان جذّاب ملفت للأنظار، يمكنه بسهولة أن يستلفت إليه أفكار السالكين وخاصّة غير المتعلّمين والدارسين منهم ،طارحاً بإلحاح مسألة عدم الحاجة إلي أُستاذ؛ وكان كلامه وحديثه يتضمّن عدّة مطالب:
الدليل الاوّل:
أنّ الأستاذ الحقيقيّ هو إمام العصر والزمان عجّل الله فرجه الشريف، وهو حاضر وناظر وحيّ ومحيط بعالمنا، فهو مطَّلِع على أُمور كلّ سالك وحالاته، فهو يوصله على أكمل نحو وأتمّه إلي نتائج السلوك. ونحن الشيعة مكلّفون أن نذكره في الأدعية والزيارات، فنسلّم عليه ونعرض حاجاتنا عليه لهذا السبب . أوَ ليس من الخطأ ـمع الاعتقاد بالإمام الحيّ والدعاء بتعجيل فرجه أن تُطلب الحاجات من غيره ويُستمدّ العون من أُستاذ سواه أوَ ليس من المخجل ـمع وجود الإمام الحقيقيّ الممتلك للولاية الكلّيّة الإلهية أن يمدّ الانسان يد الاستعانة إلي الأستاذ الذي هو مثله يخطأ ويسهو ؟!
الدليل الثاني:
أنّ ما يعلّمه الأستاذ للانسان ليس إلاّ ظهورات نفسه هو؛ وحقّاً !أيمكن لاحد أن يتخطى حدود نفسه ويتجاوزها لذا، فإنّ التبعيّة للأستاذ تمثّل متابعة أفكاره وآرائه، والجري على نهجه وطريقه النفسانيّ، وهو أمر خاطئ بلا ريب .
لانّ الله سبحانه خلق الانسان فوهبه قوّة الاستقلال والتعقّل بنفسه ،أفليس من الحيف والظلم أن يحطّم الانسان هذه القدرة، ويقضي على العزّة والاستقلال الموهوبَينِ من الله، فيصبح تابعاً لشخص هو مثله لا غير ؟!
الدليل الثالث:
لقد وهب الله تعالي للانسان القوّة التي يمكنه بها الاتّصال بعالَم الغيب واكتساب حاجاته منه، وعلى الانسان أن يصل إلي الحقائق عن طريق المكاشفات؛ لذا فإنّ التبعيّة للعلماء أمر خاطئ أيضاً، لأنهم يحصلون على الأحكام من عمليّات الإضافة والطرح والضرب والقسمة، ويجعلون الأحكام عن طريق صياغة القواعد، فالتبعيّة لهم لن توصل الانسان للحقيقة. وكيف يا تري يرجع الناس إلي ذلك العالِم الذي يفتقد نفسه العلم فلا يعرف طريق صرف الوجوه الشرعيّة في مظانّها فيستأمنونه على أموالهم وحقوقهم ؟! لذا فإنّ على الجميع أن يسيروا بالتزكية والأخلاق الانسانيّة والاسلاميّة فيوصلوا أنفسهم إلي الملكوت ويأخذوا أحكامهم الضروريّة منه.
الدليل الرابع:
أنّ روح المرحوم الأنصاريّ حيّة، وأنّها تدرك معاناةالرفقاء وعشّاق الدرب وطريق الله فتعينهم . على أنّ قدرة روح سماحة الأنصاريّ أقوي بعد موته، لانّها قد خلعت لباس عالم الكثرة ولوث الطبيعة ووصلت إلي التجرّد المحض الأبديّ؛ وسـيكون لذلك في صدد تكميل رفقائه السلوكيّين على نحو أفضل وأشمل وأسمي.
أوَ لم يكن
زمن حياته بسعته وامتداده مراقباً ومواظباً لحال رفقائه في اليقظة والنوم،
وفي السرّ والعلن، وفي الغياب والعيان، وفي السفر والحضر؛ مع أنّه كان أسير
عالم الطبع والبدن والطبيعة ؟ أفيمكن أن لا يدير أُمور رفقائه بشكل أفضل
؟ مع أنّه من المسلّم أنّ تجرّده بعد موته أقوي، وإحاطته أكثر، وعلمه
أوفر ؟! ومن ثمّ فإنّ الرجوع إلي غير الأنصاريّ هتك لحرمة الأنصاريّ وكسر
لحريمه، وهو ذنب لا يغتفر.
الدليل الخامس:
أنّ المرحوم الأنصاريّ نفسه لم يكن له أُستاذ، فقد سمع الجميع قوله: « لم أتتلمذ على يد أُستاذ؛ ولقد طويتُ هذا الطريق بلا دليل ولامعلم » . وحين يقرّر هذا الأمر ذلك المرحوم الذي تعترفون بأُستاذيّته وبقدرته على فهم أسرار البشر، فكيف تريدون أُستاذاً ؟! أصرتم تفوقونه في الاخلاص والمعرفة مع أنّكم تلاميذه ومريدوه ؟!
الدليل الخامس:
أنّ المرحوم الأنصاريّ نفسه لم يكن له أُستاذ، فقد سمع الجميع قوله: « لم أتتلمذ على يد أُستاذ؛ ولقد طويتُ هذا الطريق بلا دليل ولامعلم » . وحين يقرّر هذا الأمر ذلك المرحوم الذي تعترفون بأُستاذيّته وبقدرته على فهم أسرار البشر، فكيف تريدون أُستاذاً ؟! أصرتم تفوقونه في الاخلاص والمعرفة مع أنّكم تلاميذه ومريدوه ؟!
ولقد كان هذا
الشخص المحترم يسكن كربلاء، وقد جاء أخيراً إلي طهران للزيارة، وكان له مع
الرفقاء من أهل طهران روابط عميقة، ثمّ عاد بعد ذلك إلي كربلاء .
وقد ذكرتُ أنّه كان من ملازمي المرحوم السيّد عبدالغفّار المازندرانيّ، أحد العُبّاد المعروفين في النجف من أهل الزهد والتقوى، وكانت تحصل له أحياناً مكاشفات مثاليّة وصوريّة؛ لكنّه كان مخالفاً بشدّة لاهل التوحيد، وكان يُدين في مجالسه ومحافله العرفاء الأجلاء الالهيّين الاعزّاء وأهل التوحيد ببيانه وسيرته.
وقد ذكرتُ أنّه كان من ملازمي المرحوم السيّد عبدالغفّار المازندرانيّ، أحد العُبّاد المعروفين في النجف من أهل الزهد والتقوى، وكانت تحصل له أحياناً مكاشفات مثاليّة وصوريّة؛ لكنّه كان مخالفاً بشدّة لاهل التوحيد، وكان يُدين في مجالسه ومحافله العرفاء الأجلاء الالهيّين الاعزّاء وأهل التوحيد ببيانه وسيرته.
وكان سماحة
السيّد الحدّاد يقول : قال لي سماحة السيّد يوماً ( ويعني السيّد القاضي ) :
لقد كان لي مع السيّد عبد الغفّار علاقات صداقة نوعاً ما، لكنّه شرع الآن
بالمعارضة بكلّ قواه . وكنتُ دوماً أُسَلِّمُ عليه حيثما ألتقيته في الطريق،
فصرتُ أخيراً أُسلِّم عليه فلا يردّ عَلَيّ؛ ولذا فقد عقدت العزم أن لا
أُسلِّم عليه بعد الآن . وقد نقل نفس هذا الأمر سماحة الشيخ القوجانيّ
وأضاف: لم يكن السيّد عبد الغفّار من أهل التوحيد، بل كان يكتفي بالأدعية
والأذكار والتوسّلات والزهد .
وجاء في الأجوبة والردود النقدية ما يلي :
الجواب
على الاشكال الأول:
من الصحيح أنّ إمام العصر والزمان عجلّ الله تعالي فرجه الشريف حيّ وحاضر وناظر لجميع الاعمال، وأنّ له الولاية الكلّيّة الالهيّة حسب عقيدة وإيمان الشيعة، فهو تكويناً وتشريعاً في مصدر الولاية ومنهل الأحكام وجريان الأمور؛ ولكن هل يُغلق هذا الاعتقاد والعقيدة طريقنا إلي الأستاذ ؟! أوَ يوصلنا بلا تعليم منه وبلا إطاعة لإرشاداته في طريقنا في السير والسلوك إلي مقصدنا ؟! أوَ يجعلنا نطلب العون من إمام العصر والزمان فقط دون سواه وهو الغائب عن أنظارنا فلا مجال لنا في الظاهر للاتّصال به ؟!
من الصحيح أنّ إمام العصر والزمان عجلّ الله تعالي فرجه الشريف حيّ وحاضر وناظر لجميع الاعمال، وأنّ له الولاية الكلّيّة الالهيّة حسب عقيدة وإيمان الشيعة، فهو تكويناً وتشريعاً في مصدر الولاية ومنهل الأحكام وجريان الأمور؛ ولكن هل يُغلق هذا الاعتقاد والعقيدة طريقنا إلي الأستاذ ؟! أوَ يوصلنا بلا تعليم منه وبلا إطاعة لإرشاداته في طريقنا في السير والسلوك إلي مقصدنا ؟! أوَ يجعلنا نطلب العون من إمام العصر والزمان فقط دون سواه وهو الغائب عن أنظارنا فلا مجال لنا في الظاهر للاتّصال به ؟!
لماذا يا
تري لا نفعل هذا الأمر في سائر المسائل الأخرى ؟! لماذا نذهب فنبحث عن
أُستاذ في دراسة الحديث والتفسير والفقه والأصول وجميع العلوم الشرعيّة في
الحكمة والأخلاق، فنختار أفضل الأساتذة وأعلمهم في فنّهم، ونقضي السنين
المتمادية بل العمر كلّه تحت تعليمه وتدريسه ؟! إن كان وجود إمام العصر
والزمان يغنينا عن الأستاذ، فَلِمَ لا يغنينا في هذه العلوم ؟ في حين
تعتقدون وتدّعون أنّ إمام العصر له الاحاطة العلميّة، بل الاحاطة الوجوديّة
بجميع العالم ومخلوقاته وجميع علومه وأسراره وبغيب الملك والملكوت، فلماذا
إذاً تعدّونه فاقداً للاحاطة في مثل هذه العلوم ؟! ثمّ تتحمّلون آلاف
المحن والمصاعب والأسفار الطويلة إلي النجف الاشرف، والعيش في حياة بسيطة
قاسية، وقضاء سنين متمادية في جوّ النجف وحرارته اللاهبة وتنفّس العواصف
الرمليّة السامّة التي تقتلع الرمل والحصى من الأرض فيغبر لها الجوّ
ويظلمّ ويستحيل النهار ليلاً بهيماً، ثمّ تعيشون في السراديب العميقة ذات
السلالم التي يصل عدد درجاتها إلي اثنتي عشرة درجة أو خمساً وعشرين أو
خمسين؛ كلّ ذلك لتحصيل العلم، ومن أجل أن تصبحوا أخصّائيّين مجتهدين،
وفلاسفة ومفسّرين، ومحدِّثين وأُدباء بارعين.
فلو جلستم في بيوتكم واكتسبتم هذه العلوم
عن طريق التوسّل بإمام العصر والزمان لكان أيسر لكم وأسهل كثيراً !
فهل تكون العلوم الباطنيّة والعقائد
والمعارف والأخلاق، والمرتفعات العسيرة الصعبة العبور إلي عالم التوحيد،
وبيان منجيات الدرب ومهلكاته، وإراءة طرق التسويلات الشيطانيّة وكيفيّة
التخلّص منها، ومعرفة حقيقة الولاية ودرجات التوحيد في الذات والاسم
والصفة والفعل وأمثالها أهمّ؛ أم دراسة الصَّرف والنحو والأدب والفقه
والتفسير والحكمة ؟ ستقولون جميعاً : إنّ الأمر الأول أهمّ، لانّ كمال سعادة
الانسان وشقائه مرتبط به.
ونسأل: كيف يعسر على إمام العصر العمل في مثل هذه الأمور غير المهمّة وفي هذه العلوم الظاهريّة السطحيّة، فتشيدون لأجلها المدارس والمساجد والمكتبات وتتحمّلون مشقّة الأسفار الخطيرة؛ بينما يتمكّن من ذلك في تلك الأمور الأهم والأدق والأعظم، فتفوزون بها بلا سبب ولا وسيلة ؟! لا مفرّ من أن تجيبوا أن ذلك متعذّر على إمام العصر في الأمرين والحالين، أو أنّه لا يتعذّر عليه في كليهما معاً !
أمّا حلّ المسألة:
فهو أنّ جميع الأمور والشؤون في يده المباركة، لكن هذا الامر لا يستلزم تعطيل سنّة الأسباب؛ كما أن جميع الأمور بيد الله فلا يستلزم ذلك تعطيل سلسلة الأسباب والمسبّبات، وذلك لانّ الأسباب والمسبّبات هي تحت الاحاطة الشاملة لعالم التوحيد والولاية. فالسعي للتعلّم سواء في الأمور الظاهريّة الفقهيّة أو في الاُمور الباطنيّة الوجدانيّة خاضع للاحاطة التكوينيّة والتشريعيّة في كلا الحالين.
ومن ثمّ فإنّ البحث عن أُستاذ والانضواء تحت سيطرته وتربيته، ليس فقط غير منافٍ لولايته، بل هو مؤيّد ومُمْضٍ وممدّ لذلك النهج وتلك الطريقة في نزول النور من عالم التوحيد إلي هذا العالم.
ولو صحّ أمر عدم الحاجة للأستاذ في العلوم العرفانيّة -حسب منطقكم للزم منه استغناء الناس عن الأستاذ في جميع الصنائع والحرف من النجارة والبناء والطبّ والصيدلة والتعدين وسائر العلوم الطبيعيّة، وحلّهم مشاكلهم بتوجّههم للاحاطة العظيمة الولائيّة لامام العصر.
أوَ يُقنع هذا الكلام أيّ إنسان حتّي المتوحّش في الغابات فيلتزم به ؟! أوَ يمكنه أن يجعله برنامج حياته ومعيشته ؟!
الجواب على الاشكال الثاني:
فصحيح أنّ من يتابع الأستاذ، فإنّه سيتبع طريقته وأُسلوبه النفسيّ، لكنّه في المقابل لو عمل وفق رأيه هو، لكان قد عمل بطريقته ووفق هوي نفسه . فالكلام ينحصر في الأمر التالي: أيّهما أفضل في إيصال الانسان إلي المقصود، ولاية الأستاذ ونفسه الروحانيّة والملكوتيّة، أو نفس السالك في بداية الطريق : تلك النفس الملوّثة والفاسدة ؟!
فلو تبع ولايةَ الأستاذ لصارت نفس الأستاذ
هادية لوجود السالك؛ ولو عمل بإرادته واختياره هو مع تلوّثه لصار قائداً
وهادياً لنفسه. هذا مع الافتراض أنّه سالك وليس رجلاً كاملاً، وأنّه يسير
في الطريق ولم يطوه بعد؛ لذا فإنّ رغباته ستنبع من النفس الامّارة
والتسويلات الشيطانيّة، وسيكون غروره واستقلاله أشبه بغرور النفس البهيميّة
واستقلالها، يضرب ويكتسح ويكسر ويدمّر، كالحيوان الهائج وكالفرس بلاعنان،
لكنّ الأستاذ يأتي فيلجمه ويضع عليه العنان والركاب فيصبح مروّضاً جاهزاً
للقيادة.
لقد عمل أمثال نيرون و شابور ذي الاكتاف و
هتلر و بلعم باعوراء وجميع المستكبرين في كلّ عصر وزمان بقوّة استقلالهم
النفسيّ، وكانوا لايخضعون لأستاذ ومربٍّ أخلاقيّ؛ فجرّوا العالَم بنفسهم الأمارة
إلي الدمار وسفك الدماء والويلات، وارتكبوا فيه المجازر وأحالوه جحيماً
لايُطاق.
لكنّ أُولئك أنفسهم لو خضعوا لولاية الأستاذ
وتبعوا سيره النفسيّ لتحطّم غرورهم وانهار كبرياؤهم واستبدادهم، ولصاروا
أمثال سلمان الفارسيّ و رُشَيد الهَجَريّ و إبراهيم الأدهم ونظرائهم.
لم يكن لمعاوية فرق مع حِجْر بن عُدَي
سوي أنّ الأول كان يعمل بإرادته المستقلّة، وكان الثاني يخضع لتربية الأستاذ؛
فصار ذلك جهنّماً وآل هذا رضواناً .
أفتمثّل مسألة الشيطان والغرور وجهنّم في
الآيات القرآنيّة غير مسألة النزوع إلي الاستقلال ورفض الخضوع إلي
التعليم والتربية ؟!
الجواب على الاشكال الثالث:
فصحيح أنّ هناك قوّة أودعها الباري في غريزة الانسان وفطرته يمكنه بها الاتّصال بعالَم الغيب، ولكن هل هذه القوّة موجودة بالفعل في جميع سكّان العالم؛ أم أنّ هذه القابليّة تكتسب فعليّتها إثر تربية الأستاذ وتعليمه، فتتجلّي إذ ذاك هذه القابليّة وتتفتّح هذه البراعم الكامنة في أكمامها ؟!
أيمتلك يا تري جميع البشر، العالِم فيهم
والعامّيّ، والشريف فيهم والوضيع، هذه القدرة التي يمكنهم بها اكتساب
الحقائق من عالم الغيب؛ أم أنّ هؤلاء قلّة لا يمكن العثور على أحدهم ولو
بين عدّة ملايين ؟! ومن ثمّ فهل ستثمر الإحالة إلي عالَم الغيب إلاّ الإحالة
إلي الشيطان والخواطر الابليسيّة في طيّ الطريق، وإلي أوهام وأفكار الجنّ
المتمرّدين، وإلي التسويلات الضالّة والمضلّة للنفس الأمارة ؟!
إنّ طريق كسب الأحكام في زمن الغَيبة هو
الطريق المعهود للفقهاء، وعلى عامّة الناس أن يأخذوا الأحكام عن طريق
التعلّم والتعليم والدرس والتدريس وبيان روايات الائمّة المعصومين، وأن
يسيروا على نهج الفقهاء ويقتفوا آثارهم .
وهو أمر تقرّه الأدلة القطعيّة والشواهد اليقينيّة، وطريق أوحد لا يوجد سواه تبعاً لضرورة الإجماع المسلّم للمسلمين ولجميع الشيعة. فلا مناص لعامّة الناس إلاّ في الرجوع إلي العلماء والفقهاء، وإلاّ لهَوَوا في فم الشيطان الفاغر، فصاروا لقمةً سائغة يزدردها دفعة واحدة .
وهو أمر تقرّه الأدلة القطعيّة والشواهد اليقينيّة، وطريق أوحد لا يوجد سواه تبعاً لضرورة الإجماع المسلّم للمسلمين ولجميع الشيعة. فلا مناص لعامّة الناس إلاّ في الرجوع إلي العلماء والفقهاء، وإلاّ لهَوَوا في فم الشيطان الفاغر، فصاروا لقمةً سائغة يزدردها دفعة واحدة .
الجواب على الاشكال الرابع:
فإنّ هذا الاستدلال هو عينه استدلال عمر حين قال أن لا حاجة لنا بعد رسول الله بالامام الحيّ؛ فسنّة رسولالله في أيدينـا وكتاب الله يكفينا : حَسْـبُنَا كِتَابُ اللَهِ، كَفَانَا كِتَابُ اللَهِ.
فإن كانت روح آية الله الأنصاريّ كافية
بعد موته للقيام بتدبير أُمور العالَم الظاهريّ، فلا حاجة لأستاذ حيّ حرّ
مهذّب منزّه عن هوي النفس، فلِمَ أورد رسول الله كلّ هذه
التعليمات والتأكيدات والبيانات والخطب في الرجوع إلي أميرالمؤمنين ؟ ولِمَ أخّر
تلك الجموع الحاشدة عند الرجوع من حجّة الوداع في رمضاء الصيف في
الجُحفة في بقعة غديـر خم، ليخطب فيهم تلـك الخطـبة الغـرّاء البليغة ؟
أكانت روح آية الله الأنصاريّ أقوي أم روح رسول الله ؟!
ولِمَ عمد كلّ نبيّ إلي تعيين وصيّ له
وخليفة من بعده ؟ فلقد كان يكفي حسب قولكم أن يقول لجميع الاُمّة : إنّ
روحي ستصبح أقوي بعد موتي وإنّها ستصبح أكثر تجرّداً، وسأعينكم وأهديكم إلي
معارج الكمال ومدارجه أفضل ممّا كنت أفعل أيّام حياتي؛ فلا حقّ لكم أن
ترجعوا إلي أحد من عظماء أُمّتي المعنويّين والروحيّين، بل ادعوا أن يُعجَّل
لي بموتي ليزداد تجرّدي ويمكنني إذ ذاك أن أُربّيكم تربيةً أفضل وأكثر
خلوصاً ونزاهة !
أستحلفكم بالله ! أليس مفاد ذلك القول هو
هذا ولا شي آخر سواه ؟! أوَ يمثّل مجمل كلام عمر وعصارته شيئاً غير هذا ؟!
فيا أيّها العزيز ! إن من الثابت الذي لا
شكّ فيه حسب الأدلة الفلسفيّة والبراهين الحكميّة والمشاهدات العينيّة
والروايات والأحاديث الواردة، أنّ جميع الموتى بلا استثناء يصبح تجرّدهم
بعد موتهم أكثر، أي أنّهم يتوغّلون أكثر في فناء التوحيد في الذات؛ وهذا ما
يستلزم انصرافهم عن عالم الطبيعة، بل وانصرافهم عن عالم المثال والصورة،
ولهذا فإنّ البرهان القطعيّ قائم على ضرورة ووجوب وجود الامام والمربّي
الحيّ إلي يوم القيامة؛ فلو لم تتّصلوا بالمربّي الحيّ ولم تعملوا
بتعاليمه وتقتفوا آثاره، وجلستم إلي يوم القيامة في انتظار أن تربّيكم
روح الامام موسيبن جعفر() ، لرحلتم عن هذه الدنيا بأيدٍ خالية
تجترّون حسرة الندامة ! ولبقيتم كالثمرة الفجّة التي لم تنضج بعد !
ولربّما انحدرتم من حيث لا تشعرون في مهاوي النفس الأمارة والشيطان، تحسبون
أنّكم قد نلتم الرقيّ والرفعة؛ بينما تُبتلون بعقاب الله الدنيويّ :) سَنَسْتَدْرِجُهُم
مِّنْ حَيْثُ لاَيَعْلَمُونَ(
فلِمَ تنتظرون إفادات وإفاضات المرحوم الأنصاريّ قدّس الله نفسه بعد وفاته ؟! أوَ لم تكن منذ هبوط آدم على نبيّنا وآله إلي الآن روح أفضل وأقوي منه وأكثر تجرّداً ؟ ولِمَ لا تنحازون إلي روح نوح فتقولون : إنّ تجرّده بعد الموت أفضل، لذا فإنّ بإمكانه أن يدير أُمورنا أفضل، فلا حاجة لنا معه إلي مربٍّ حيّ ؟! ولِمَ لا تتوسلون بموسي وعيسي؟ أوَ لم يكونا من الأنبياء أُوليالعزم ؟
إنّ دليلِي الواضح القاطع هو : هل قمتم
بتربية شخصٍ موحِّد واحد كنموذج لما تدّعونه منذ زمن ارتحال آية الله الأنصاريّ
في الثاني من ذيالقعدة 1379 ه.ق وحتّي يومنا هذا : الرابع والعشرين من
شهر رجب المرجب لسنة 1412 ه.ق، حيث تنقضي مدّة ثلاث وثلاثين سنة ؟! وهل
ربّيتم شخصاً اجتاز عالم المثال والعقل ووصل إلي التجلّيات الذاتيّة ؟!
أرونا إيّاه لطفاً، فها هم عشّاق وادي الحقيقة يبحثون عن شخص كهذا شارعاً
فشارعاً وبيتاً فبيتاً ! فاعلموا إذن أنّ هذا الدرب خاطي، وأنّه ليس إلاّ
درباً للظُّلمة ! وأنّ تحمّل مسؤوليّة تربية جماعة ثمّ تركهم أحراراً
وإيكالهم إلي إرادتهم واختيارهم بلا مربٍّ ولا معلِّـم ليـس إلاّ تضـييعاً
للنفوس القابلة، وإبطالاً للموادّ المستعدّة.
الجواب على الاشكال الخامس : فإنّ ما يستفاد من بيانات سماحة الشيخ الأنصاريّ أنّه قد حضر عند الأعاظم، ومن جملتهم رجلٌ مجذوب كان يأتي إلي همدان فيجني من جبال البرز عشباً خاصّاً فيجمعه؛ كما كان يتردّد كذلك على بعض تلامذة المرحوم آية الله الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ قدّس الله تربته، كالسيّد الحاجّ حسين الفاطميّ والسيّد الحاجّ محمود، وكان له معهم مذاكرات ومباحثات .
ومضافاً إلي ذلك فإنّ طريق ذلك المرحوم لم يكن صحيحاً في بداية أمره؛ فقد قال للحقير مرّة : « حين ذهبتُ إلي قم للدراسة كنتُ في محاربة أهل العرفان، وكان لي خصومة شديدة مع أحد المعروفين منهم في همدان، الذي كان يدّعي هذه المطالب . وكنتُ بعد ذهابي إلي قم أُمارس بعض الرياضات لتسخير الأرواح والجانّ، لكنّ الله رحمني فأنقذني من وسط هذا الطريق الضالّ، وهداني نحو الحقّ والحقيقة والعرفان الإلهيّ ؛ وكانت مشيئة الباري أن يمنَّ على هذا العبد الضعيف بهدايته » . ثمّ أضاف : « من كان له اتّصال بالجانّ ولو بمسلميهم فسيرحل عن الدنيا كافراً في النهاية » .
وبعد هذا التفصيل المطول أختصره بفقرة موجزة جدا فأقول : طبيب يداوي الناس وهو عليل ، فبحكم العقل أن فاقد الشيء لا يعطيه ، فكيف يسلك الطريق من هو جاهل بأسراره وغوامضه ويحتاج إلى من يسلك به الطريق ، فالعليل لا يداوي بل يُداوى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق