اشكالية
الشطح في اللغة العرفانية :
مسألة
الشطحات من أخطر المسائل المبحوثة في العرفان على الصعيد اللغوي ولي وصف خاص في
هذا المقام فـ(ظاهرالعرفان شائك وباطنه سالك) ، ولعلّنا نقف على هذا
العنوان وقفة بيانية مطوّله وتفصيلية لأهميته القصوى ، ويمكن أن نتساءل منذ
البداية عن ماهية ظاهرة الشطح وهل هي من صلب المسائل العرفانية حيث لا يمكن للسالك
أن يسير ويسلك في الطريق إلا إذا (شطح) أما أنها طارئه على السالك وهي سلوك خاص لا
يتعدى أصحابه؟. والحقيقة قبل أن أتطرق لتلك المسألة بشي من التحليل والتفصيل ، يجب
أن أذكر أولاً أهم مدلولات الشطح وتعريفاته .
تعريف
الشطح :
قال
اللغوي الزبيدي في تاج العروس-ج 2 ص 172
: اشتهر بين المتصوفة الشطحات وهى في اصطلاحهم عبارة عن كلمات تصدر منهم في حالة الغيبوبة
وغلبة شهود الحق تعالى عليهم بحيث لا يشعرون حينئذ بغير الحق كقول بعضهم أنا الحق
وليس في الجبة الا الله ونحو ذلك وذكر الامام أبو الحسن اليوسى شيخ شيوخنا في
حاشية الكبرى وقد ذكر الشيخ السنوسى في اثنائه الشطحات لم أقف على لفظ الشطحات
فيما رأيت من كتب اللغة كأنها عامية وتستعمل في اصطلاح التصوف .
وقام السراج الطوسي بمحاولة تحليل كلمة
(الشطح) تحليلا لغويا حيث يردّ كلمة (الشطح) لغويا إلى معنى الحركة فيقول:
"أن الشطح في لغة العرب هو الحركة، يقال شطح يشطح: إذا تحرك... فالشطح لفظة
مأخوذة من الحركة ، لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوى وجدهم فعبروا عن وجدهم ذلك
بعبارة يستغرب سامعها".
حقيقة
الشطح :
وعلى
أية حال فالشطح هو : ألفاظ وعبارات هائلة ليس من ورائها طائلة عند أهل الظاهر ،
موهمة الظاهر تستشكل ظواهرها ويقف الناس منها مواقف تتفاوت حظها من الانكار ،
والتحسين ، والتأويل ، ولكنها ألفاظ وعبارات صدرت عن أصحابها في وصف ما يخضعون له
من الوجد الغالب على نفوسهم فهو تعبير عن حال وجد فائق للغاية للطبيعة البشرية ،
فيكون الخطاب بصيغة المتكلم ، إذ يحدّث الواصل على لسان الحق تعالى لأنه يعتقد أنه
صار والحق شيئا واحدا من وجد العشق عند انتفاء الاثنينية وفي هذا الاتجاه قد ورد
الحديث القدسي بقوله تعالى : (ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون
سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به).
ولذلك
حرص أرباب الطريقة على عدم إذاعة سر هذا اللقاء الفريد من نوعه في الحضرة الالهية
بين العابد والمعبود ، فمن أذاعه فقد شطح ، فلهذا لابد من اندكاك جبل الانانية عند
السالك حتى لا يضطرب حاله وينقلب إلى حب الذات والنفس ويكون بهذا قد احتجب بالحجاب
الابليسي .
ومما
ينبغي أن يذكر أن الشطحات ولو أن عباراتها الظاهرة منفرة للفقهاء وأهل الشرع إلا
أنها تعبر في حقيقتها المعنوية عن أكمل مرتبة في التوحيد لدى الشاطح ، إذ أنها
تقتصر الوجود الحق على الله فقط لا غير .
أقوال
أهل الاختصاص حول مسألة الشطح :
يبدو لي في أول وهله أنه يوجد اختلاف
بين العرفاء المحققين حول تشخيص حالة الشطح لدى السلاّك ، وسوف نورد الاختلاف وبعد
ذلك نشرع ببيان جهة الاختلاف وهل هو تعارض مستقر أم بدوي .
أقوال
الطائفة الاولى :
قال
السراج الطوسي في كتابه اللمع : فالشطح لفظة مأخوذة من الحركة، لأنها
حركة أسرار الواجدين إذا قوى وجدهم فعبروا عن وجدهم ذلك بعبارة يستغرب سامعها ، فمفتون
هالك بالانكار والطعن عليها اذا سمعها ، وسالم ناج برفع الانكار عنها والبحث عما
يشكل عليه منها بالسؤال عمن يعلم علمها .
وقال
المحقق المشهور والفيلسوف الكبير الخواجه نصيرالملة والدين الطوسي في كتابه أوصاف
الأشراف :
أن من قال أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني ، لم يكن في مقام الادعاء بالالوهيه ، بل
هو بذلك قد نفى إنيّته وأثبت إنّية الغير وهو المطلوب .
أقوال
الطائفة الثانية :
قال
ركن العرفان الامام الخميني(قدس سره) في مصباح الهداية: ظهور أهل الشطح
بالربوبية و إظهارهم إيّاها لنفسهم ، ليس إلا لنقصان السلوك و بقاء الأنانية و
الإنية ، فإن السالك إذا أراد بالسلوك إظهار القدرة و السلطة لما رأى أهل السرّ من
الأولياء قد يظهرون ذلك ، فاشتغل به لذلك ، ربّما يظهر نفسه و شيطانه له ، و يتجلى
بالربوبية ، فإنه عبد نفسه ، لا عبد ربّه . قال شيخنا دام ظله العالي : أن أكثر
أهل الدعاوي الباطلة كانوا من أصحاب الرياضات الباطلة .
أقول:
و ميزان تمييز الرياضة الباطلة عن غيرها، هو ذلك الذي ذكرناه. فعليك بخلوص النية و
صدق السريرة مع ربّك. فإن من أخلص للَّه أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه
على لسانه . [1]
قال
الشيخ الاكبر ابن عربي في الفتوحات ج2، ص : 233 : و ما فعل هذا سبحانه
كله إلا ليعلم الخلق الأدب معه إذاً و قد علم إن من أهل الله من له شطحات ليتأدبوا
، فلا يشطحوا فإن الشطح نقص بالإنسان لأنه يلحق نفسه فيه بالرتبة الإلهية و يخرج
عن حقيقته فيلحقه الشطح بالجهل بالله و بنفسه و قد وقع من الأكابر و لا أسميهم
لأنه صفة نقص ، وأما رعاع الناس فلا كلام لنا معهم فإنهم رعاع بالنظر إلى هؤلاء
السادة و إذا وقع مثل هذا من السادة فعليهم يقع العتب منا و قد يشطح أيضا الأدنى
على الأعلى كمثل الشطحات على مراتب الأنبياء ، وهي أعظم عند الله في المؤاخذة من
شطحهم على الله فإن مرتبة الإله تكذبهم بالحال وعند السامع وأما شطحتهم على
الأنبياء فموضع شبهة يمكن أن تقبل الصحة في نفس الأمر فيغتر بها السامع الحسن الظن
به الذي لا معرفة عنده بمراتب أصناف الخلق عند الله .
بيان
جهة الاختلاف :
اذن:
من خلال ما ذكرناه يوجد اختلاف واضح بين من عدّ حالة الشطح من الامور الكمالية ،
ومن عدّها من النقص .
فبالنظر
إلى هذا الامر في نفسه فهو صحيح لا غبار عليه ، ولكن بشرط أن لا يخرج عن إطار محله
، فالحكمة تقتضي أن تضع الاشياء في محلها الصحيح .
وكشف
مثل هذه الاسرار لا يليق بحكم الظاهر ولا ينسجم معه ، فكما قيل أن للربوبية سر لو
كشف لبطلت ، فإبطال الربوبية من المخالفات الصريحة للشريعة التي تعمل على رسم
الظاهر بأحكام الربوبية والتي تعكس معاني العبودية على ظاهر الخلق .
طبعا
هناك كلام حول القول بكفر القائل بالشطح ،
وهو إظهار ما لا ينبغي إظهاره للعلماء غير المتخصصين فضلاً عن العوام ، وهذا
الكلام قد أشار إليه الامام الخميني في بيان ماهية الاسفار الأربعة .
قال
الامام الخميني (قدس سره) في
كتابه مصباح الهداية ص 88 ما نصه : فينتهي سفره الأوّل و يصير وجوده وجودا حقّانيّا و يعرض له «المحو»، و يصدر
عنه «الشطح»، فيحكم بكفره .
فإن تداركته العناية الإلهيّة، يشمله و يزول المحو فيقرّ
بالعبوديّة بعد الظهور بالربوبيّة .
وقال بعد ذلك : ثمّ إن شملته العناية الإلهيّة- و هي، أي العناية الإلهيّة، مقام تقدير
الاستعدادات، كما قال الشيخ العربي: و القابل لا يكون إلّا من فيضه الأقدس أرجعته
إلى نفسه .اهـ
وتارة أخرى نجد أن الامام الخميني علّل الشطح بوجود
النقص في طريقة السير والسلوك من عدم اتخاذ مرشد ومعلم يرشده إلى طريق السلوك
وكيفيته الصحيحة .
في هذا الخصوص قال الامام الخميني في كتابه مصباح
الهداية مانصه : في هذين السفرين لو بقي من الأنانيّة
شيء، يظهر له شيطانه الّذي بين جنبيه بالربوبيّة، و يصدر منه «الشطح». و
الشطحيّات كلّها من نقصان السالك و السلوك و بقاء الإنّيّة و الأنانية. و لذلك
بعقيدة أهل السلوك لا بدّ للسالك من معلّم، يرشده إلى طريق السلوك، عارفا بكيفيّاته،
غير معوّج عن طريق الرياضات الشرعيّة. فإنّ طرق السلوك الباطني غير محصور بعدد
أنفاس الخلائق . اهـ
إذن : نفهم من كلام
الامام الخميني أن الشطح حالة تنتاب السالك في طريق سيره وسلوكه ، وعلاج مثل هذا
الخلل لابد أن يكون بعناية من الله تدركه من خلال رجوعه إلى شيخ مرشد في مقام سيره
وسلوكه ، حتى يتم إرجاعه إلى نفسه .
بعد هذا الاستعراض لأقوال أساطين العرفان نصل إلى هذه
النتيجة وهي : أن ما وراء حالة الشطح أمر واقع وتحقق ناصع ، وإلى هذا أشار المحقق
الكبير الخواجة نصيرالدين الطوسي حيث أن كلامه ناظر إلى جهة البعد المعنوي للسالك
.
أما بالنسبة إلى جهة صدور ألفاظ الشطح فهي تبقى محكومة
بحكم الظاهر وآلاته وهي منطق العقل ، وحدود الشرع ، كما أشار إلى ذلك الامام
الخميني حيث أن كلامه ناظر إلى جهة البعد
الظاهري للسالك ، حيث يحتاج إلى تهذيب ظاهره ، ويلاحظ هنا أيضاً الفرق بين السالك والمجذوب.
الفرق بين السالك والمجذوب :
ويجدر بنا في هذا المقام أن نلفت
النظر إلى نقطة جداً مهمة وهي ذكر الفرق بين السالك والمجذوب ، حيث فرقوا بينهما
في مهمة الوصول إلى المقصد ، فالسالك حتى يصل إلى الله قد سلك لهذا ، الطرق القفار
وعاني أنواع المجاهدات فعرف حتى وصل ، أما المجذوب فليس له من وجوده نصيب إلا اسمه
، فهي جذبة الحق له ، فوصوله بلا كلفة السلوك ومتاعب المجاهدات .
فلهذا قال أرباب
الطريق : فإن المجذوب وإن ذاق المقصود ولكن لم يذق الطريق إلى المقصود فلم يصلح
للتربية والمشيخة لأن التربية والمشيخة هما الدلالة والخفارة في الطريق ، فلا يصلح
المجذوب مرشدا للتربية لجهله بالطريق ، مع وصوله للمقصود .
إذن : لهذا السبب
أيضاً نستطيع أن نقول بأن الشطح يكون
صدوره غالباً عن المجذوبين ، وذلك بسبب عدم معرفتهم المسبقة لقواعد وأسس السير
والسلوك النظري .
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق