اللغة العرفانية:
تعتبر اللغة العرفانية لغة اصطلاحية بحته ، ورمزية مجازية ذات دلالات عميقة
قابلة لأكثر من تأويل تتميز بالتخييل والتمثيل والتشبيه، لهذا فهي عيّنة بلاغية
خصبة .
واذا كانت اللغة العرفانية نظاما ومزيجاً من الإشارات واللطائف التي
تعبر عن الأفكار ، فان العرفاء استخدموا في لغتهم واستعاراتهم إشارات ودلالات
تختلف عن استعارات ودلالات الادب ، والفلسفة ، والسياسة …الخ ، وتشكل هذه
الاستعارات في تركيبها وتكوينها سياقا خاصا للّغة العرفانية ، فيه مفرادت وجمل
متميزة فتصبح لكل مفردة دلالة خاصة ولكل جملة حجة معينة ، ولا يمكن دراسة النص أو اللغة
العرفانية إلا بعد دراسة آلية تكوّن المفردة والجملة الْمُكوِّنة للنص العرفاني
والرجوع إلى التجربة العرفانية المكونة لِلُغة العرفان، لان اللغة هنا تكونت من
منظور عرفاني خاضع لسلسلة من الاستعدادات والممارسات الخاصة، فالنص هنا لا يتكون
بعد نظر عقلي وتخطيط إنشائي مسبق بل من إجهاد واستعداد روحي أعمق بكثير من النظر
العقلي ، على ضوئه نحتاج إلى فهم التجربة العرفانية لان الكلمة أو الشئ عندهم لا يماثلان الدال والمدلول ، بل هما يستمدان
معناهما من خلال التمثيل الثقافي العرفاني ، فالدلالة العرفانية لها عمق وذوق روحي
لا يرصدها إلا أهلها .
وفي هذا الصدد نحتاج التطّرق إلى بيان عدة أمور:
في المبحث الأصولي أثبتوا أن دلالة الألفاظ على معانيها وضعية تعيينية
وأنها بوضع الوضّاع .
ومن منطلق هذا الاصل على الدارس أو الباحث في المسائل العرفانية قبل أن يبني الدراسات ، والاستدلالات ، والنتائج
حول العرفان لابد أن يحرص تماماً على فهم واستيعاب المصطلح العرفاني بمعناه التمامي والكمالي وأن لا تكون هناك أي
قرائن منفصلة فضلاً عن المتصلة ، وبما أنه قد قُررّ في المبحث الاصولي أيضاً من أن
الدلالة التصديقية يشترط فيها أمران هما :
الامر الاول : ان يكون المتكلم جاداً غير غافل أو هازل .
الامر الثاني : ان لا يكون هناك قرينة منفصلة فضلا عن المتصلة ، والا لو وجدت قرينة لما كان
هناك دلالة مطابقية للكلام ، بل تكون على طبق القرينة ، وعلى هذا الاساس تتم حجية أصالة الظهور .
ومن جهة أخرى أيضا ينبغي على الباحث في الساحة العرفانية أن يراعي
ويلاحظ التجربة العرفانية الذوقية .
لأن تكوين نصوص اللغة العرفانية تأتي بعد استعدادات مسبقة هي ( أذكار ، وأوراد، ، ومجاهدات ، ورياضات ، وخلوات …الخ) يؤدي مجموع هذه الاستعدادات إلى تكوّن ( الذوق العرفاني ) وهو مصطلح خاص بهم ولا يخضع لحدود العلم ويخرج عن دائرة العلم ، ويدرجه العرفاء ضمن ( علم الأحوال ) وعلم الأحوال لا سبيل إليه إلا بالذوق فلا يقدر عاقل على أن يحدها و لا يقيم على معرفتها دليلا كالعلم بحلاوة العسل و مرارة الصبر و لذة الجماع و العشق و الوجد و الشوق و ما شاكل هذا النوع من التحقق العلمي ، فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلا بأن يتصف بها و يذوقها .
ويفهم من سياق المصطلح في مؤلفاتهم انه يعني ( الذوق ، المعرفة الوجدانية ، الفهم الحدسي ) " فهو نور عرفاني يقذفه الحق في قلوب من أحب من أوليائه "، والذوق هو القاسم المشترك عند العرفاء وبالنتيجة هو القاسم المشترك في تكوين اللغة العرفانية ، وينبه العرفاء قرّائهم إلى فهم هذه المسألة والدخول في التجربة العرفانية كي لا يُحجبوا عن الوصول إلى مرادهم الاستعمالي وكنه مقاصدهم الجدّية .
والذوق[1] عندهم أول درجات الشرب[2] ، فيكون أول درجات التلقي والاستقبال ، والسكر[3] نتاج الشرب فيصبح السكر أول درجات الانفعال والإرسـال ، وهذه الحالة تؤدي إلى درجة أعلى من الذوق تسمى ( المعراج الروحي ) وهو عودة إلى البطون ، والمقصود منه رحلة داخل النفس لاستلام نتائج الذوق ، والشرب ، ولان السكر استشراف ونظرة متعالية للعالم ، تليه حالات أخرى متقدمة هي ( المحاضرة[4] تليها المكاشفة[5] تليها المشاهدة[6] ) ونجمع نحن هذه الحالات بمصطلح ( المخاطبة الرمزية ) التي تكون وصفية او تحليلية لأحوالهم المعنوية حيث ينتج عنها اللغة العرفانية .
فاذا كانت " اللغة هي التي تنشئ مفاهيمنا عن العالم " على
نحو السلسلة الصعودية، على حد تعبير بعض فلاسفة الادب الذي يجمع بين العمق النظري
وطلاوة الاسلوب الادبي ، فأقول: أما
اللغة العرفانية بعكس ذلك فهي تنشأ في أحضان "المعراج الروحي" بنحو
السلسلة النزولية ـ كما هو الحال في طبيعة تلقي نزول الوحي القرآني ـ والمعراج
الروحاني بدوره ينشئ مفاهيم العرفان عن العالم وتتغير هذه
المفاهيم بحسب درجة الذوق .
(أذكار أوراد
مجاهدات رياضات روحية)
(المعراج الروحي)
(المخاطبة
الرمزية)
النص
العرفاني
وما يزال الاشكال قائما في كيفية تمييز لغة العبارات والاشارات
واللطائف والحقائق ، لان النص العرفاني أو الكتابة العرفانية ملبوس عليها بحلة
الميتافيزيقيا ، خارجة عن نطاق الطبيعة مئة وثمانين درجة كما يعبرون بها عن المدى
البعيد جداً .
وقد أشارة الامام عليإلى هذا التفاوت في حديثه قال : « أن كتاب الله
على أربعة أشياء ، على العبارة والاشارة واللطائف والحقايق . فالعبارة للعوام
والاشارة للخواص واللطائف للاولياء والحقايق للانبياء »[7] .
وبنظري التحقيقي أن هذا هو السبب الرئيسي ، الذي أوقع الكثير ممن كانت لهم محاولات دراسية أو
بحثية لفهم النصوص العرفانية ، بالتخبط تارة ، وبالتعسف تارة أخرى .
[1] - الذوق أول مبادئ
التجليات الالهية .
[2] - الشرب أوسط التجليات
الالهية .
[3] - السكر هو من كثر ما
يندهش به سر المحب بالتجليات الالهية فيغيب عن تمييز الاشياء بحضوره مع كل الاشياء
.
[4] - المحاضرة تطلق على حضور القلب في لطائف البيان
.
[5] - المكاشفة
وجود الحق بلا نعت البيان .
[6] - المشاهدة وجود الحق مع
فقدانك ذاتك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق