بدايةً لكي نتعرف على أي علم من العلوم ، فمن اللازم التوجه إلى تاريخه
ومعرفة التحولات التي مر بها هذا العلم ، وأيضا التعرف على الشخصيات التي حملته
وتوارثته أو كان لها الفضل في حفظه وارتقائه ، وكذلك الاطلاع على الكتب الأساسية التي
ألفت حول هذا العلم ، وسوف نستعرض في ضمن هذا العنوان مسيرة العرفان الاسلامي التأريخية
من حيث كيفية نشأته ، وتطور مراحله ، ومدارسه ، ومذاهبه .
مدخل إلى العرفان:
العرفان ظاهرة واضحة جداً في
كل مرحلة من مراحل الحياة الانسانية فكراً وسلوكاً ، يشترك فيها الداني والقاصي
والغني والفقير وصاحب الملة السماوية فهو القاسم المشترك بين الأديان السماوية ، وحتى
من غير ملة أيضاً كما عند بعض الهنود ، لفطرية الجهة العرفانية في الانسان ، فمنشأ
العرفان الأصلي هو الفطرة الانسانية ، كما دلّت عليه قصة بلعم بن باعوره التي حكى
عنها القرآن فقد كان أحد عرفاء زمانه ، إلاّ أنه قد وقع في مصائد الشيطان لعدم خلو
نفسه تماماً من شوائب الأنانية .
ولا يختص العرفان بدين دون دين آخر، لأن الدين باعتباره نظاماً تشريعياً
يبلور حياة معتنقيه ، فهو غير المعرفة التي هي الكشف الحقيقي لواقع النفس لذا قال
سيد العارفين الامام علي« العارف
من عرف نفسه »[1] .
فبين الدين والعرفان عموم خصوص من وجه ، فبعض المتدينين عارف ، وليس
كل عارف متدين ، والحال أن الدين طريق واضح
يؤدي إلى العرفان ، لأن الدين يهدي إلى الزهد والزهد يهدي إلى عرفان
النفس ، والعرفان يهدي إلى حقيقتها ولهذا
قال سيد العارفين الامام علي « من
عرف نفسه فقد عرف ربه »[2] فإذاً
ما به اشتراك الأديان هو العرفان ، وما به تمايزها هو الدين من حيث التشريع .
فجهة العرفان متجذرة في حياة الانسان وليست بأمرٍ جديد ابتدعه ،
فالعرفان لسان وترجمان القلب ، فهناك عمق اللامتناهي فوق اللايتناهى في الانسان لا
يناله إلاّ بكأس العرفان .
مذاهب أهل العرفان:
ينقسم أهل المعرفة إلى قسمين سلبي وآخر إيجابي كما سيتضح :
القسم السلبي:
وهم الذين يجتهدون في احراز آثار النفس الخفية ، وتسخيرها لأمور
منافية لأحكام الشريعة كالشعوذة والسحر وتحضير الجن لامور مخزيه ولا شك بكفر هؤلاء
، أو التمظهر بالتقشف والتصوف من أجل الكسب المريح بما يدرّ عليهم من الناس من دون
أي عناء وعمل ،لأنهم عبدوا الأثر دون المؤثر وهؤلاء خرجوا عن حقيقة دائرة العرفان
بالتخصص دون حاجة لدليل التخصيص .
القسم الايجابي:
وهم المتعمقون في كشف كوامن النفس ، واستخراج أسرارها ومراقبتها من
حيث الأوقات والأحوال ، لهدف العروج إلى نقطة الفيض الأزلي والوجود الحقاني ، وكما
ورد في المناجاة الشعبانية « اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ
اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى
تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ
الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ، اِلـهي
وَاْجَعَلْني مِمَّنْ نادَيْتَهُ فَاَجابَكَ، وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ،
فَناجَيْتَهُ سِرّاً وَعَمِلَ لَكَ جَهْراً»[3] .
وهؤلاء هم أهل المعرفة حقاً لأنهم يصونون الحقيقة بالعلم ، ويتوجهون
بشراشر عقولهم ، ولصفاء نفوسهم وسرهم عن الأكدار وشوائب الأنانية ، وأجاد بعضهم في
حق العارف حين قال :
قلوب
العارفين لها عيـون ترى ما لا يراه
الناظرون
وأجنحة
تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق