(محاضرات عرفانية ألقاها الشيخ راضي حبيب على بعض الطلبة)
(السير والسلوك)
السير والسلوك:
مصطلح
السير والسلوك يعني مقدمات الوصول إلى لقاء الله
، وقد أطلقه أهل المعرفة على حركة الانسان
التكاملية للوصول إلى الغاية من خلقه ، وهذه الغاية تحددها بوضوح النهضة الشرعية لأنها
تحقق العبادة الخالصة لله تعالى والمستندة إلى المعرفة القلبية به عز وجل وبأسمائه
وصفاته، فإذا حقق الانسان هذه الغاية عرج الى مراتب مقام "المقربين"
إلى الله
في الدنيا والآخرة، وهذا
المقام حسب اصطلاح أهل المعرفة هو مقام البقاء بالله بعد الفناء، أي البقاء بالله
بعد هجر عبودية النفس
والتحرر من إرادتها بالكامل والفناء في إرادة الله، والتّرقي من محل النعل
إلى مقام العقل ومن مقام العقل إلى مقام القلب ، فلا تكون للعبد إرادة مستقلة عن
إرادة مولاه
، وهؤلاء يحظَوْن بلقاء الله
بوجوه ناضرة والى ربها ناظرة بعين البصيرة
ويفوزون بكمال الانقطاع إليه فتخرق أبصار قلوبهم حجب النور وتصير أرواحهم معلقة
بعز قدسه تبارك وتعالى .
وهناك
ترادف بين كلمتي السير والسلوك حيث أن كلاهما يُحمل على معنى الارتقاء ، فالسير
يتناول ارتقاء النفس في جهة المقامات ، والسلوك يتناول ارتقاء النفس في جهة التهذيب
، فَمُرتكز السير على السلوك ، لان السلوك بدوره يعمل على تكامل النفس أخلاقياً ،
ويكون السالك على استعداد وقابلية مفتوحة وليست مغلقة ، عندها يأتي دور السير في
تكامل النفس في مقاماتها اعتمادا على معطيات عملية السلوك .
بيان لحقيقة مفهوم السير والسلوك:
بيان لحقيقة مفهوم السير والسلوك:
وهنا
لابدّ لنا من وقفة توضيحية في مقام تحديد حقيقة معنى السلوك ، وهل هو من قبيل
الحركة الجوهرية ؟
صرّح
الحكماء بأن غاية المراتب للسعادة أن يتشبه الانسان في صفاته بالمبدأ ، وتسمى هذه
الحالة في لسان الشريعة (التخلق بأخلاق الله) ، وفى لسان المجردين الترقي في مدارج
الجلال ، فهو عبارة عن تحلية الذات بدرجات الرياضة الروحية الايجابية ، وذلك بأن
يصير السالك رؤوفا رحيما جوادا كريما ،وإنما يتحقق ذلك إذا صارت حقيقته المعبر
عنها بالعقل الالهي و النفس الناطقة خيرا محضا، بأن يتطهر عن جميع الخبائث
الجسمانية، و الاقذار الحيوانية. و لا يحوم في غمس الطبيعية و الخواطر النفسانية،
و يمتلىء من الانوار الالهية، و المعارف الحقيقية، و يتيقن بالحقائق الحقّة والواقعية،
و يصير عقلا محضا بحيث يصير جميع معقولاته كالقضايا الأولية بل يصير ظهورها أشد و
انكشافها أتم وحينئذ يكون له أسوة حسنة بالله سبحانه، في صدور الأفعال و تصير
إلهية أي شبيه بأفعال الله سبحانه .
إذن
: على السالك أن يطوي عدة مراحل وعوالم ليصل إلى الغاية ، واعلم ان
الغاية في تهذيب النفس عن الرذائل و تكميلها بالفضائل هو الوصول الى الخير و
السعادة. و أرباب الحكمة قالوا : ان (الخير) على قسمين مطلق و مضاف، و المطلق هو
المقصود من إيجاد الكل، إذ الكل يتشوقه و هو غاية الغايات، و المضاف ما يتوصل به
إلى المطلق. و (السعادة) .
فمثل
هذا التمرحل الارتقائي بين المراتب وحتى الوصول إلى الغاية ، هو حركة جوهرية في
أعماق النفس .
إيضاح
فلسفي:
عرّف الحكماء الحركة الجوهرية بأنها « خروج الشيء من القوة إلى الفعل
على سبيل التدرج; .
ويتكون
هذا التعريف من ثلاثة عناصر رئيسية هي :
أ ـ
الخروج من القوة.
ب ـ
إلى الفعل.
ج ـ
على سبيل التدرج.
ويقصد
بالقوة قابلية الشيء وإمكانيته واستعداده . فإن قولنا : إن هذا الطفل طبيب بالقوة،
يقصد منه أنه قابل لأن يكون طبيباً وذلك ممكن وليس بمحال. أو كقولنا: إن هذه
البذرة شجرة بالقوة، ونقصد بذلك أيضاً أنها من الممكن أن تكون شجرة، أو إن لها
القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة.
أما
معنى الفعل : فهو عبارة عن وجود الشيء حقيقة. ومنه اشتقت كلمة الفعلية. ومثال ذلك
قولنا : إن هذه الشمعة مشتعلة بالفعل إذا كانت مشتعلة حال كلامنا عنها.
أما
معنى قولهم : (على سبيل التدرج) فالمراد منه أن هذا الانتقال من حال القابلية إلى
حال الفعلية لا يكون دفعة واحدة وخارج إطار الزمن ، بل لابد أن يكون متدرجاً في
حصوله شيئاً فشيء .
وقد
أوضح الحكيم المتأله الملا صدار هذا العنوان وأشبعه بحثاً وتفصيلاً حتى تمكن بعد
إثباته من حل العديد من المشكلات الفلسفية التي عجزت عن حلها الفلسفات المتقدمة
عليه وهنا نورد باختصار ما نحتاج لنقله في مقامنا هذا .
قال
الحكيم المتأله الملا صدرا
:
بواسطة الحركة الجوهرية يمكن توضيح العوالم الوجودية للإنسان من الحس والخيال
والعقل ، وأيضاً تطورات النفس من مرحلة إلى مرحلة أخرى ، مع الحفاظ على الوحدة
الشخصية وكيفية اتحاد النفس مع البدن والتوجه إلى كمال النفس عند الاتصال بالبدن .
ومن
خلال الحركة الجوهرية يتم إثبات أن النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء حيث أن
النفس في أول النشأة التعلقية جوهر جسماني ثم يتدرج شيئاً فشيئاً في الاشتداد
ويتطور في أطوار الخلقة إلى أن تقوم بذاتها وتنفصل عن هذه الدار إلى دار الآخرة . [1]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق